استرداد الماغوط / عباس بيضون

استرداد الماغوط  / عباس بيضون
كان محمد الماغوط يروي أنه لم ينتم الى الحزب السوري القومي الاجتماعي الا لأنه كان يستدفئ في مركزه أيام «السلمية» الباردة، وانه لم يقرأ من تراث سعاده سوى صفحتين وانه جمع تبرعات للحزب اشترى بها لنفسه بنطلونين. لكن أي عارف لمحمد الماغوط لا بد ان يفهم ان كلاماً كهذا هو من قماشة أدب الماغوط وأنه كان يمزح ويبتكر ليس إلا. حكايات كهذه كانت لترتد على الماغوط لولا ان الجميع فهموا انه «ألفها»، مع ذلك فإن المغزى الوحيد لهذه التركيبات هو ان الماغوط لا يريد أن يتصل تاريخه بالحزب القومي ويقول إنه لم يرسخ في الحزب ولم يرسخ الحزب فيه.

جان دايه وهو محقق متمكن يبرهن بلا جدال على ان كلام الماغوط بلا أساس. عشرات الصفحات تبين ان الماغوط اشتغل بجد في صحافة الحزب وروّج لمواقفه وتبنّاها بصلابة. والنتيجة اننا أمام حزبي صلب دار بالعقيدة والمواقف بل دار بمجريات السياسة في العالم آنذاك، وليست حكاية مدفأة ولا حكاية مرور عابر. نجح دايه في كشف كذبة الماغوط، لكننا فهمنا نحن سرها، إذا كان محمد الماغوط لا يريد أن يبدأ من الصحافة الحزبية فلأنه، في الأغلب، لم يكن فخوراً مما صنعه فيها. لم تكن مقالاته تتفجر «خيالاً وسخرية وشاعرية» بل حذلقة. أما ما يكسف ويحرج فهو ان موضوعها الغالب كان الهجوم على «الشيوعية» بلغة الحرب الباردة آنذاك المجندة في خدمة الدعاوة الأميركية. تهمة التآمر الدولي والتلاعب والتحريك من وراء الستار هما الغالبتان على اطروحة خشية فاقعة مستهلكة يومذاك لا تستطيع طرافة الماغوط المزعومة ان تصب فيها حياة.

من حق الماغوط أن يتنكر (ولا ينكر) لتاريخ كهذا لم يكن ليتصل عضوياً بما صاره فيما بعد. من حق جان داية ان ينبش هذه المرحلة المغمورة من سيرة محمد الماغوط. كان في هذا حاسماً مفحماً، كنت أفضل لو اقتصر داية على هذا الباب وترك لغيره ان يستثمر ما كشف عنه في أبحاثه. كان أفضل لو تنكب عن التحليل الأدبي ولم يسم هذه قصيدة «قومية» وهذا أدباً ملتزماً، وأن لا يخوض في مناظرة الماغوط/ حاوي والماغوط/ قباني فالمسألة هنا وهناك ليست كما يتراءى له وهي خاصة، بعد كل ما مضى تحتاج الى تحليل تاريخي من نوع آخر. كل ما استطيع في هذه العجالة توضيحه هو ان موقف الماغوط من شعراء الاسطورة وما قاله في حاوي وفي السياب أيضاً في هذا السبيل يفهم أكثر إذا وضع في سياق أكثر تركيبيّة وأكثر تاريخية. يفاجئنا ان يسرع محقق كداية أحياناً الى استنتاجات اعتباطية إذ لا نفهم مثلاً هذا المقطع في كلامه عن الماغوط «أما لماذا لم يكتب ولم يفسر أدباً ساخراً منذ بداية خمسينيات القرن الماضي فلاعتقاده ان ذلك لا يتناسب مع اعتناقه عقيدة سعاده وانضوائه في حزبه، خصوصاً وان قسمه الحزبي حصل بعد اشهر من اغتيال سعاده. وربما عزز الاعتقاد الخاطئ ان معظم الأدباء والشعراء القوميين أمثال فؤاد سليمان كانوا مجلببين بالألوان السوداء». على ماذا بنى داية ما اعتبر «اعتقاد» الماغوط وهل هناك في كلام الماغوط ما يثبت هذا الاعتقاد. هل يظن داية ان «سخرية» الماغوط وفنه وشغفه الأدبي ازرار عقائدية تعمل حسب الحاجة الحزبية وان الماغوط كان حينذاك، هذه الماكينة الحزبية. ثم هل يعني ان مصرع سعاده نشر حداداً عاماً حتى على الاساليب الأدبية فامتنع الضحك والسخرية بعد ذلك؟ هل يعني ان السخرية لا تناسب أساساً جدية العقيدة كما كان الضحك في «اسم الوردة» لامبرتو اكو ضد العقيدة المسيحية.

كان مهماً البحث عما رسب من القصيدة القومية في اثر الماغوط وسواه من القوميين السابقين. سيكون هذا بحثاً مهماً في تاريخ الأدب والعقيدة الحديثة بخاصة. لكن يتراءى لي ان باحثاً مثل جان داية يحتاج من أجل ذلك الى أمور كثيرة من بينها وعي تاريخي لا يتأتى لمن لا يزالون يؤمنون بحرفية العقيدة، حتى وان لم تتعد المزاج والوعي الأدبيين للزعيم. (عن السفير الثقافي).

.

التعليقات